فصل: الباب الثاني من المقالة السابعة فيما يكتب في الإقطاعات في القديم والحديث:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الباب الثاني من المقالة السابعة فيما يكتب في الإقطاعات في القديم والحديث:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول في أصل ذلك:

والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع تميماً الداري أرضاً بالشام وكتب له بها كتاباً.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق فيه طرقاً مختلفة، فروى بسنده إلى زياد بن فائد، عن أبيه فائد، عن زياد بن أبي هند، عن أبي هند الداري أنه قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ونحن ستة نفر: تيم بن أوس، ونعيم بن أوس أخوه، ويزيد بن قيس، وأبو هند بن عبد الله، وهو صاحب الحديث، وأخوه الطيب بن عبد الله كان اسمه برا فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وفاكه بن النعمان، فأسلمنا وسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطعنا أرضاً من أرض الشام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا حيث شئتم». فقال تميم: أرى أن نسأله بيت المقدس وكورها، فقال أبو هند: هذا محل ملك العجم وكذلك يكون فيها ملك العرب وأخاف أن لا يتم لنا هذا، فقال تميم: فنسأله بيت جبرين وكورتها، فقال أبو هند: هذا أكبر وأكبر. فقال: فأين ترى أن نسأله؟ فقال: أرى أن نسأله القرى التي تقع فيها تل مع آثار إبراهيم، فقال تميم: أصبت ووفقت- قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتميم: «أتحب أن تخبرني بما كنتم فيه أو أخبرك؟» - فقال تميم: بل تخبرنا يا رسول الله نزداد إيماناً- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أردتم أمراً فأراد هذا غيره ونعم الرأي رأى» قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطعة جلد من أدم، فكتب لنا فيها كتاباً نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب ذكر فيه ما وهب محمد رسول الله للداريين؛ إذا أعطاه الله الأرض، وهب لهم بيت عينون وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم بمن فيهن لهم أبداً» شهد عباس بن عبد المطلب، وجهم بن قيس، وشرحبيل بن حسنة، وكتب.
قال: ثم دخل بالكتاب إلى منزله فعالج في زاوية الرقعة وغشاه بشيء لا يعرف، وعقده من خارج الرقعة بسير عقدتين، وخرج إلينا به مطوياً وهو يقول: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين} ثم قال: انصرفوا حتى تسمعوا بي قد هاجرت. قال أبو هند: فانصرفنا. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قدمنا عليه فسألناه أن يجدد لنا كتاباً، فكتب لنا كتاباً نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أنطى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتميم الداري وأصحابه، إني أنطيتكم عينون وحبرون والرطوم وبيت إبراهيم برمتهم وجميع ما فيهم نطية بت، ونفذت وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الأبد؛ فمن آذاهم فيها آذاه الله».
شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب.
فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أبو بكر وجه الجنود إلى الشام، فكتب لنا كتاباً نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم: ومن أبي بكر الصديق إلى عبيدة بن الجراح؛ سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.
أما بعد: امنع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الفساد في قرى الداريين؛ وإن كان أهلها قد جلوا عنها وأراد الداريون أن يزرعوها فليزرعوها، فإذا رجع أهلها إليها فهي لهم وأحق بهم والسلام عليك.
وروى بسنده أيضاً إلى الزهري وثور بن يزيد عن راشد بن سعد، قالا: قام تميم الداري وهو تميم بن أوس، رجل من لخم، فقال يا رسول الله، إن لي جيرة من الروم بفلسطين لهم قرية يقال لها حبرى، وأخرى يقال لها بيت عينون: فإن الله فتح عليك الشام فهبهما لي، قال: «هما لك»، قال: فاكتب لي بذلك، فكتب له: «بسم الله الرحمن الرحيم:
هذا كتاب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتميم بن أوس الداري؛ إن له قرية حبرى وبيت عينون، قريتها كلها، سهلها وجبلها، وماءها وحرتها، وأنباطها وبقرها، ولعقبه من بعده، لا يحاقه فيها أحد، ولا يلجه عليهم أحد بظلم، فمن ظلمهم أو أخذ من أحد منهم شيئاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»
وكتب علي.
فلما ولي أبو بكر، كتب لهم كتاباً نسخته: هذا كتاب من أبي بكر، أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي استخلف في الأرض بعده، كتبه للداريين: أن لا تفسد عليهم مأثرتهم قرية حبرى وبيت عينون، فمن كان يسمع ويطيع فلا يفسد منها شيئاً، وليقم عمرو بن العاص عليهما فليمنعهما من المفسدين.
وروى ابن مندة بسنده إلى عمرو بن حزم رضي الله عنه أنه قال: أقطع النبي صلى الله عليه وسلم تميماً الداري، وكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد رسول الله لتميم بن أوس الداري: إن له صهيون، قريتها كلها، سهلها وجبلها، وماءها وكرومها، وأنباطها وورقها، ولعقبه من بعده، لا يحاقه فيها أحد، ولا يدخل عليه بظلم؛ فمن أراد ظلمهم أو أخذه منهم فإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
قلت: وهذه الرقعة التي كتب بها النبي صلى الله عليه وسلم موجودة بأيدي التميميين خدام حرم الخليل عليه السلام إلى الآن؛ وكلما نازعهم أحد أتوا بها إلى السلطان بالديار المصرية ليقف عليها ويكف عنهم من يظلمهم. وقد أخبرني برؤيتها غير واحد؛ والأديم التي هي فيه قد خلق لطول الأمد.

.الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة السابعة في صورة ما يكتب في الإقطاعات:

وفيه طرفان:

.الطرف الأول فيما كان يكتب من ذلك في الزمن القديم:

وكانت الإقطاعات في الزمن الأول قليلة؛ إنما كانت تجبى الأموال إلى بيت المال ثم ينفق منه على الجند ما تقدم ذكره، وربما أقطعوا القرية ونحوها وقرروا على مقطعها شيئاً يقوم به لبيت المال في كل سنة؛ ويسمون ذلك المقاطعة.
ثم ما كان يكتب في ذلك على ضربين، كلاهما مفتتح بلفظ هذا:
الضرب الأول: ما كان يكتب عن الخلفاء، ولهم فيه طريقتان:
الطريقة الأولى: طريقة كتاب الخلفاء العباسيين ببغداد:
وكان طريقتهم فيها أن يكتب هذا كتاب من فلان بلقب الخليفة إنك ذكرت من أمر ضيعتك الفلانية كذا وكذا، وسألت أمير المؤمنين في كذا وكذا، وقد أجابك أمير المؤمنين إلى سؤالك في ذلك ونحوه.
وهذه نسخة مقاطعة كتب بها عن المطيع لله الخليفة العباسي، من إنشاء أبي إسحاق الصابي؛ وهي: هذا كتاب من عبد الله الفضل، الإمام، المطيع لله، أمير المؤمنين، لفلان بن فلان إنك رفعت قصتك تذكر حال ضيعتك المعروفة بكذا وكذا، من رستاق كذا وكذا، من طسوج كذا وكذا، وأنها أرض رقيقة قد توالى عليها الخراب، وانغلق أكثرها بالسد والدغل، وأن مثلها لا تتسع يد الليالي للإنفاق عليه، وقلب بالانبله واستخرج سدوده وقفل أرضه، ولا يرغب الأكرة في ازدراعه والمعاملة فيه. وإن أمير المؤمنين مقاطعك عن هذه الضيعة على كذا وكذا من الورق المرسل في كل سنة، على استقبال سنة كذا وكذا الخراجية، مقاطعة مؤبدة، ماضية مقررة نافذة، يستخرج مالها في أول المحرم من كل سنة، ولا تتبع بنقض ولا يتأول فيها متأول، ولا تعترض في مستأنف الأيام، ما اجتهدت في عمارتها، وتكلفت الإنفاق عليها واستخراج سدودها، وقفل أراضيها واحتفار سوافيها، واجتلاب الأكرة إليها، وإطلاق البذور والتقاوى فيها، وإرغاب المزارعين بتخفيف طسوقها بحق الرقبة ومقاسماتها، وكان في ذلك توفير لحق بيت المال وصلاح ظاهر لا يختل.
وسألت أمير المؤمنين الأمر بذلك والتقدم به والإسجال لك به، وإثباته في ديوان السواد ودواوين الحضرة وديوان الناحية، وتصيير ماضياً لك ولعقبك وأعقبابهم، ومن لعل هذه الضيعة أو شيئاً منها ينتقل إليه ببيع أو ميراث أو صدقة أو غير ذلك من ضروب الانتقال.
وإن أمير المؤمنين بإيثاره الصلاح، واعتماده أسبابه، ورغبته فيما عاد بالتوفير على بيت المال، والعمارة والترفيه للرعية، أمرنا بالنظر فيما ذكرته، واستقصاء البحث عنه، ومعرفة وجه التدبير، وسبيل الحظ فيه، والعمل بما يوافق الرشد في جميعه، فرجع إلى الديوان في تعرف ما حكيته من أحوال هذه الضيعة، فأنفذ منه رجل مختار ثقة مأمون، من أهل الخبرة بأمور السواد وأعمال الخراج: قد عرف أمير المؤمنين أمانته وعلمه ومعرفته، وأمر بالمصير إلى هذه الناحية، وجمع أهلها: من الأدلاء والأكرة والمزارعين، وثقات الأمناء والمجاورين، والوقوف على هذه الأقرحة، وإيقاع المساحة عليها، وكشف أحوال عامرها وغامرها، والمسير على حدودها، وأخذ أقوالهم وآرائهم في وجه صلاح وعمارة قراح منها، وما يوجبه صواب التدبير فيما التمسته من المقاطعة بالمبلغ الذي بذلته. وذكرت أنه زائد على الارتفاع، والكتاب بجميع ذلك إلى الديوان، ليوقف عليه وينهى إلى أمير المؤمنين فينظر فيه: فما صح عنده منه أمضاه، وما رأى الاستظهار على نظر الناظر فيه استظهر فيما يرى منه، حتى يقف على حقيقته، ويرسم بما يعمل عليه.
فذكر ذلك الناظر أنه وقف على هذه الضيعة، وعلى سائر أقرحتها وحدودها ونطاقها، بمشهد من أهل الخبرة بأحوالها: من ثقات الأدلاء والمجاورين، والأكرة والمزارعين، والأمناء الذين يرجع إلى أقوالهم، ويعمل عليها، فوجد مساحة بطون الأقرحة المزدرعة من جميعها، دون سوافيها وبرورها وتلالها وجنائبها ومستنقعاتها، وما لا يعتمد من أرضها، بالجريب الهاشمي الذي تمسح به الأرض في هذه الناحية كذا وكذا جريباًسس: منها جميع القراح المعروف بكذا وكذا، ومنها قراح كذا وكذا، ومنها الحصن والبيوت، والساحات، والقراحات، والخزانات، ووجد حالها في الخراب والانسداد، وتعذر العمارة، والحاجة إلى عظيم المؤونة وفرط النفقة، على ما حكيته وشكوته، ونظر في مقدار أصل هذه الخزانات من هذه الضيعة، وما يجب عليها، وكشف الحال في ذلك.
ونظر أمير المؤمنين فيما رفعه هذا المؤتمن المنفذ من الديوان، واستظهر فيه بما رآه من الاستظهار، ووجب عنده من الاحتياط، فوجد ما رفعه صحيحاً صحة عرفها أمير المؤمنين وعلمها، وقامت في نفسه، وثبتت عنده، ورأى إيقاع المقاطعة التي التمسها على حق بيت المال في هذه الضيعة، فقاطعك عنه في كل سنة هلالية، على استقبال سنة كذا وكذا الخراجية، على كذا وكذا: درهماً صحاحاً مرسلة بغير كسر ولا كعابه؟ ولا حق حرب ولا جهبذة ولا محاسبة ولا زيادة، ولا شيء من جميع المؤن وسابق التواقيع والرسوم، تؤدى في أول المحرم من كل سنة، حسب ما تؤدى المقاطعة، مقاطعة ماضية مؤبدة، نافذة ثابتة، على مضي الأيام، ولزوم الأعوام، لا تنقض ولا تفسخ، ولا تتبع، ولا يتأول فيها، ولا تغير. على أن يكون هذا المال: وهو من الورق المرسل كذا وكذا في كل سنة مؤدى في بيت المال، ومصصحاً عند من تورد عليه في هذه الناحية أموال خراجهم ومقاطعاتهم وجباياتهم، لا يعتل فيها بآفة تلحق الغلات، سماوية ولا أرضية، ولا بتعطل أرض، ولا بقصور عمارة، ولا نقصان ريع، ولا بانحطاط سعر، ولا بتأخر قطر، ولا بشرب غلة، ولا حرق ولا شرق، ولا بغير ذلك من الآفات بوجه من الوجوه، ولا بسبب من الأسباب؛ ولا يحتج في ذلك بحجة يحتج بها التناء، والمزارعون، وأرباب الخراج في التواء بما عليهم، وعلى أن من بعدك، وأعقابهم، وورثتك وورثتهم، أبداً ما تناسلوا، ولمن عسى أن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه بإرث، أو بيع، أو هبة، أو نحل، أو صدقة، أو وقفلا يدخل عليك في هذه المقاطعة يد ماسح ولا مخمن، ولا حازر، ولا مقدم، ولا أمين، ولا حاظر، ولا ناظر، ولا متتبع، ولا متعرف لحال زراعة وعمارة، ولا كاشف لأمر زرع وغلة، ماضياً ذلك لك ولعقبك، أو مناقلة، أو إجارة أو مهايأة، أو تمليك، أو إقرار، أو بغير ذلك من الأسباب التي تنتقل بها الأملاك من يد إلى يد، ولا ينقض ذلك ولا شيء منه، ولا يغير ولا يفسخ، ولا يزال ولا يبدل، ولا يعقب، ولا يعترض فيه بسبب زيادة عمارة، ولا ارتفاع سعر ولا وفور غلة، ولا زكاء ريع، ولا إحياء موات، ولا اعتمال معطل، ولا عمارة خراب، ولا استخراج غامر، ولا صلاح شرب، ولا استحداث غلات لم يجر الرسم باستحداثها وزراعتها، ولا يعد ولا يمسح ما عسى أن يغرس بهذه الأقرحة: من النخل وأصناف الشجر المعدود والكرم، ولا يتأول عليك فيما لعل أصل المساحة أن تزيد به فيما تعمره وتستخرجه من الجبابين والمستنقعات، ومواضع المشارب المستغنى عنها، إذ كان أمير المؤمنين قد عرف جميع ذلك، وجعل ذلك، وجعل ما يجب على المشارب المستغنى عنها، إذ كان أمير المؤمنين قد عرف جميع ذلك، وجعل ما يجب على شيء منه عند وجوبه داخلاً في هذه المقاطعة، وجارياً معها.
على أنك إن فصلت شيئاً من مال هذه المقاطعة على بعض هذه الأقرحة من جميع الضيعة، وأفردت بافي مال المقاطعة ببافيها عند ملك ينتقل منها عن بدل، أو فعل ذلك غيرك ممن جعل له في هذه المقاطعة ما جعل لك من ورثتك وورثتهم، وعقبك وأعقابهم، ومن لعل هذه الضيعة أو شيئاً من هذه الأقرحة ينتقل إليه بضر من ضروب الانتقال، قبل ذلك التفصيل منكم عند الرضا والاعتراف ممن تفصلون باسمه، وتحيلون عليه، وعوملتم على ذلك، ولم يتأول عليكم في شيء منه.
وعلى أنك إن التمست أو التمس من يقوم مقامك ضرب منار على هذه الضيعة، تعرف به حدودها ورسومها وطرقها، ضرب ذلك المنار أي وقت التمسوه، ولم يمنعوا منه؛ وإن تأخر ضرب المنار لم يتأول عليكم به، ولم يجعل علة في هذه المقاطعة، إذ كانت شهرة هذه الضيعة وأقرحتها في أماكنها، ومعرفة مجاورها بما ذكر من تسميتها ومساحتها، تغني عن تحديدها أو تحديد شيء منها، وتقوم مقام المنار في إيضاح معالمها، والدلالة على دودها وحقوقها ورسومها. وقد سوغك يا فلان بن فلان أمير المؤمنين وعقبك من بعدك وأعقابهم، ورثتك وورثتهم أبداً ما تناسلوا، ومن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء من حق بيت المال وتوابعه، على الوضيعة التامة، وعلى الشروط القديمة، وبين ما يلزمها على هذه المقاطعة، وجعل ذلك خارجاً عن حاصل طسوج كذا وكذا، وعما يرفعه المؤتمنون، ويوافق عليه المتضمنون، على غابر الهر ومر السنين، وتعاقب الأيام والشهور.
فلا تقبل في ذلك سعاية ساع، ولا قدح قادح، ولا قرف قارف، ولا إغراء مغر، ولا قول معنف، ولا يرجع عليك فيما سوغته ونظر لك به في حال من الأحوال، ولا يرجع في التقريرات، ولا تنقض بالمعاملات وردها إلى قوام أصولها، ولا ضرب من ضروب الحجج والتأويلات، التي يتكلم أهل العدل على سبيل الحكم والنظر، وأهل الجور على سبيل العدوان والظلم، ولا تكلف يا فلان بن فلان، ولا عقبك من بعدك، ولا ورثتك، ولا أعقابهم، ولا أحد ممن تخرج هذه الضيعة أو هذه الأقرحة أو شيء منها إليه، على الوجوه والأسباب كلها- إخراج توقيع، ولا كتاب مجدد، ولا منشور بإنفاذ شيء من ذلك، ولا إحضار سجل به، ولا إقامة حجة فيه في وقت من الأوقات.
وعلى أن لا يلزمك ولا أحداً ممن يقوم مقامك في المقاطعة مؤونة، ولا كلفة، ولا ضريبة، ولا زيادة، ولا تقسيط كراء منه، ولا مصلحة، ولا عامل بريد، ولا نفقة، ولا مؤونة جماعة، ولا خفارة، ولا غير ذلك. ولا يلزم بوجه من الوجوه في هذه المقاطعة زيادة على المبلغ المذكور المؤدى في بيت المال في كل سنة خراجية، وهو من الورق المرسل كذا وكذا، ولا تمنع من روز جهبذ أو حجة كاتب أو عامل بما لهذه المقاطعة إذا أديته أو أديت شيئاً منه أولاً أولاً، حتى يتكمل الأداء، وتحصل في يدك البراءة في كل سنة في الوفاء بجميع المال بهذه المقاطعة.
وعلى أن تعاونوا على أحوال العمارة، وصلاح الشرب، وتوفر عليكم الضيافة والحماية، والذب والرعاية.
ولا يتعقب ما أمر به أمير المؤمنين أحداً من ولاة العهود والأمراء والوزراء وأصحاب الدواوين، والكتاب والعمال والمشرفين، والضمناء والمؤتمنين، وأصحاب الخراج والمعاون، وجميع طبقات المعاملين، وسائر صنوف المتصرفين- يبطله أو يزيله عن جهته، أو ينقصه، أو يفسخه، أو يغيره أو يبدله، أو يوجب عليك أو على عقبك من بعدك وأعقابهم وورثتهم أبداً ما تناسلوا، ومن تخرج هذه الضيعة أو شيء منها إليه حجة على سائر طرق التأويلات؛ ولا يلزمك شيئاً فيه، ولا يكلفكم عوضاً عن إمضائه، ولا ينظر في ذلك أحداً منهم نظر تتبع ولا كشف، ولا بحث، ولا فحص. فإن خالف أحد منهم ما أمر به أمير المؤمنين، أو تعرض لكشف هذه المقاطعة أو مساحتها أو تخمينها، أو اعتبارها والزيادة في مبلغ مالها، أو ثبت في الدواوين في وقت من الأوقات شيء يخالف ما رسمه لأمير المؤمنين فيها: إما على طريق السهو والغلط، أو العدوان والظلم والعناد والقصد،، فذلك كله مردود، وباطل، ومنفسخ، وغير جائز، ولا سائغ، ولا قادح في صحة هذه المقاطعة وثبوتها ووجوبها، ولا معطل لها، ولا مانع من تلافي السهو واستدراك الغلط في ذلك، ولا مغير لشيء من شرائط هذه المقاطعة، ولا حجة تقوم عليك يا فلان بن فلان، ولا على من يقوم في هذه المقاطعة بشيء من ذلك: إذ كان ما أمر به أمير المؤمنين من ذلك على وجه من وجوه الصلاح، وسبيل من سبله رآهما وأمضاهما، وقطع بهما كل اعتراض ودعوى، واحتجاج وقذف، وأزال معهما كل بحث وفحص، وتبعة وعلاقة؛ وإن كان من الشرائط فيما سلف من السنين وخلا من الأزمان ما هو أوكد وأتم وأحكم وأحوط لك، ولعقبك وورثتك، وأعقابهم وورثتهم، ومن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه مما شرط في هذا الكتاب وغيرهم مما للخلفاء أن يفعلوه وتنفذ فيه أمورهم، وحملت وحملوا عليه، وهو مضاف إلى شروط هذا الكتاب التي قد أتى عليها الذكر، ودخلت تحت الحصر، ولم يكلف أحداً منكم إخراج أمر به.
وإن التمست أنت أو أحداً من ورثتك وأعقابك، ومن عسى أن تنتقل هذه الضيعة والأقرحة أو شيء منها إليه في وقت من الأوقات تجديد كتاب بذلك، ومكاتبة عامل أو مشرف، أو إخراج توقيع ومنشور إلى الديوان بمثل ما تضمنه هذا الكتاب، أجبتم إليه ولم تمنعوا منه.
وأمر أمير المؤمنين بإثبات هذا الكتاب في الدواوين، وإقراره في يدك، حجة لك ولعقبك من بعدك وأعقابهم، وورثتك وورثتهم، ووثيقة في أيديكم، وفي يد من عسى أن تنتقل هذه الضيعة أو الأقرحة أو شيء منها إليه، بضرب من ضروب الانتقال التي ذكرت في هذا الكتاب والتي لم تذكر فيه، وأن لا تكلفوا إيراد حجة من بعده، ولا يتأول عليكم متأول فيه.
فمن وقف على هذا الكتاب وقرأه أو قريء عليه: من جميع الأمراء، وولاة العهود والوزراء، والعمال، والمشرفين، والمتصرفين، والناظرين في أمور الخراج، وأصحاب السيوف على اختلاف طبقاتهم، وتباين منازلهم وأعمالهم، فليمتثل ما أمر به أمير المؤمنين ولينفذ لفلان بن فلان ورثته وورثتهم، وعقبه وأعقابهم، ولمن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه- هذه المقاطعة، من غير مراجعة فيها، ولا استثمار عليها، ولا تكليف له ولا لأحد ممن يقوم بأمرها إيراد حجة بعد هذا الكتاب بها. وليعمل بمثل ذلك من وقف على نسخة من نسخ هذا الكتاب في ديوان من دواوين الحضرة، وأعمالها أو الناحية، وليقر في يد فلان بن فلان أو يد من يورده ويحتج به ممن يقوم مقامه، إن شاء الله تعالى.
الطريقة الثانية: ما كان يكتب في الإقطاعات عن الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية:
وهو على نحو مما كان يكتب عن خلفاء بني العباس.
قال في مواد البيان: والرسم فيها أن يكتب: أمير المؤمنين بما وهبه الله تعالى: من شرف الأعراق، وكرم الأخلاق، ومنحه من علو الشان، وارتفاع السلطان، يقتدي بإذن الله سبحانه في إفاضة إنعامه وبره، على الناهضين بحقوق شكره، ويوقع أياديه عند من يقوم بحقها، ويتألف بحمدها وشكرها، ولا ينفرها ويوحشها بكفرها وجحدها، ويتحرى بعوارفه المغارس التي تنجب شجرتها، وتحلو لي ثمرتها؛ والله تعالى نسأله أن يوفقه في مقاصده، ويريه مخايل الخير في مصادره وموارده، ويعينه على إحسان يفيضه ويسغبه، وامتنان يضفيه ويفرغه.
ولما كان فلان بن فلان ممن غرس أمير المؤمنين إحسانه لديه فأثمر، وأولاه طوله فشكر، ورآه مستقلاً بالصنيعة، حافظاً للوديعة، مقابلاً العارفة بالإخلاص في الطاعة، مستدراً بالانقياد والتباعة، أخلاف الفضل والنعمة ويوصف الرجل المقطع بما تقتضيه منزلته ثم يقال: رأى أمير المؤمنين مضاعفة أياديه لديه، ومواصلة إنعامه إليه، وإجابة سؤاله، وإنالته أقاصي آماله، وتنويله ما نحت إليه أمانته، وطمحت نحوه راحته، وإسعافه بما رغب فيه من خراج ملكه، وما يجري هذا المجرى. ثم يقال: ثقة بأن الإحسان مغروس منه في إقطاعه الناحية الفلانية، أو الدار أو الأرض، أو تسويغه ما يجب عليه من خراج ملكه، وما يجري هذا المجرى. ثم يقال: ثقة بأن الإحسان مغروس منه في أكرم مغرس وأزكاه، وأحق منزل بالتنويل وأولاه، وخرج أمره بإنشاء هذا المنشور بأنه قد أقطعه الناحية الفلانية، لاستقبال سنة كذا بحقوقها وحدودها، وأرضها العامرة ووجوه جباياتها، وينص على كل حق من حقوقها، وحد من حدودها فإذا استوفى القول عليه، قال: إنعاماً عليه، وبسطاً لأمله، وإبانة عن خطره.
فليعلم ذلك كافة الولاة والنظار والمستخدمين من أمير المؤمنين ورسمه، ليعملوا عليه وبحسبه، وليحذروا من تجاوزه وتعديه، وليقر بيده بعد العمل بما نص فيه، إن شاء الله تعالى.
قلت: والتحقيق أن لهم في ذلك أساليب: منها ما يفتتح بلفظ هذا والمعروف أنه كان يسمى ما يكتب في الإقطاعات عندهم سجلات كالذي يكتب في الولايات.
وهذه نسخة منشور من مناشيرهم، من إنشاء القاضي الفاضل لولد من أولاد الخليفة اسمه حسن ولقبه حسام الدين، مفتتح بلفظ هذا وهي: هذا كتاب من أمير المؤمنين لولده الذي جل قدراً أن يسامى، وقر في ناظر الإيمان نوراً وسلته يد الله حساماً، وحسن به الزمان فكان وجوده في عطفه حلية والغرة ابتساماً، وأضاءت وجوه السعادة لمنحها بكريم اسمه إتساماً، وتهيأت الأقدار لأن تجري على نقش خاتم إرادته امتثالاً وارتساماً- الأمير فلان، جرياً على عادة أمير المؤمنين التي أوضح الله فيها إشراق العوائد، واتباعاً لسنة آبائه التي هي سنن المكارم والمراشد، وارتفاداً مع ارتياح إلى موارد كرمه التي هي موارد لا يحلأ عنها وارد، واختصاصاً بفضله لمن كفاه من الشرف أنه له والد، وعموماً بما يسوقه الله على يده من أرزاق العباد، وإنعاماً جعل نجله طريقه إلى أن يفيض على كل حاضر وباد.
وأمير المؤمنين بحر ينتشي من آله السحاب المنزل، ويمدهم جواد العطاء الأجزل- أمر بكتبه لما عرضت لمقامه رقعة بكذا وكذا، وخرج أمر أمير المؤمنين إلى وليه وناصره، وأمينه على ما استأمنه الله عليه وموازره، السيد الأجل الذي لم تزل آراؤه ضوامن للمصالح كوافل، وشهب تدبيره من سماء التوفيق غير غاربة ولا أوافل، وخدمه لأمير المؤمنين لا تقف عند الفرائض حتى تتخطى إلى النوافل، وجاد فأخلف النعم به حوافل، وأقبل فأحزاب الخلاف به جوافل، وأيقظ عيوناً من التدبير من التدبير على الأيام لا تدعي الأيام أنها غوافل- بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بإقطاع ناحية كذا بحدها، والمعتاد من وصفها المعاد، وما يدل عليه الديوان من عبرتها، ويتحصل له من عينها وغلتها، إلى الديوان الفلاني: إقطاعاً لا ينقطع حكمه، وإحساناً لا يعفوا رسمه، وتسويغاً لا يطيش سهمه، وتكميلاً لا يمحى وسمه، وتخويلاً لا يثنى عزمه، يتصرف فيه هذا الديوان ويستبد به مالكاً، ويفاوض فبه مشاركاً، ويزرعه متعملاً ومضمناً، ويستثمره عادلاً في أهله محسناً، لا تتعقبه الدواوين بتأول ما، ولا الأحوال بتحول ما، ولا الأيام بتقبلها، ولا الأغراض بتعقبها، ولا اختلاف الأيدي بتنقلها، ولا تعترضه الأحكام بتأويلها.
وقد أوجب أمير المؤمنين على كل وال أن يتحامى هذه الناحية بضرره، ويقصدها بجميل أثره، ويحيطها بحسن نظره، ويتفي فيها ركوب عواقب غرره، ويجتنب فيها ورده وصدره، ونزول مستقره، ولا يمكن منها مستخدماً، ولا يكلف أهلها مغرماً، ويجريها مجرى ما هو من الباطل حمى، ما لم يقل فيها بميل، أو يخف من سبلها سبيل؛ وله أن يتطلب الجاني بعينه، ويقتضيه بأداء ما استوجب من دنه، وأخذه مسوقاً بجرائم ذنبه إلى موقف حينه؛ فمن قرأه فليعمل به.
وهذه نسخة سجل بإقطاع، عن العاضد آخر خلفاء الفاطميين أيضاً لبعض أمراء الدولة، من إنشاء القاضي الفاضل أيضاً؛ وهي: أمير المؤمنين- وإن عم جوده كما عم فضل وجوده، وسار كثير إحسانه وبره في سهول المعمور ونجوده، ورحم الله الخلق بما استأثر دون الخلائق من قربه في سجوده- فإنه يخص بني القربى من جده، والضاربين معه في أنصاب مجده: من سلالته الزكية، وطينته المسكية، وأعراقه الشريفة، وأنسابه المنيفة؛ فكل غراء لا تخفى أوضاحها، إلا إذا فاضت أنوارهم، وكل عذراء لا يعهد إسماحها، إلا إذا راضت أخطارهم.
ولما عرضت بحضرته ورقة ون ولده الأمير فلان الذي أفر الله به عين الإسلام، وأنجز به دين الأيام، وأطلعه بدراً في سماء الحسب، وجلا بأنواره ظلام النوب، وامتاح من منبع النبوة وارتوى، واستولى على خصائص الفضل الجلي واحتوى، وأعد الله لسعد الأمة ذا مرة شديد القوى، وأدنى الاستحقاق من الغايات حتى تأهب لأن يكون بالواد المقدس طوى، وأضحت كافة المؤمنين مؤمنين على مكارمه، وأمست كافة الخائفين خائفين من سيل أنفسهم على صوارمه؛ وآراؤه أعلى أن يضاهيها رأي وإن جل خطره، وأعطيته أرقى أن يدانيها عطاء وإن حسن في الأحوال أثره؛ وإنما ينبع بملكه منها ما راق بعين اختياره وإيثاره، وسعد بالانتظام في سلك جوده الذي يعرضه أبداً لانتثاره؛ وتضمنت هذه الرقعة الرغبة في كذا وكذا، وذكر الديوان كذا.
خرج أمر أمير المؤمنين إلى فتاه وناصره، ووزيره ومظاهره، السيد الأجل الذي انتصر الله به لأمير المؤمنين من أعدائه، وحسم بحسامه ما أعضل من عارض الخطب ودائه، ونطقت بفضله ألسن حساده فضلاً عن ألسنة أودائه، وسخت الملوك بأنفسها أن تكون فداء له إذا حوزها المجد في فدائه، الذي ذخره الله لأمير المؤمنين من آدم ذخيرة، وجمع له في طاعته بين إيقظ البصيرة وإخلاص السريرة، وسهل عليه التقوى في المنافع والعكوف على المصالح، وأجنى من أقلامه ورماحه ثمرات النصائح، وفاز بما حاز من ذخائر العمل الصالح بالمتجر الرابح، وألهمه من حراسة قانون الملك ما قضى بحفظ نظامه، ولم ينصرف له عزم إلا إلى ما صرف إليه رضا ربه ورضا إمامه.
ونفذت أوامره بإن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل إلى الديوان الفلاني بإقطاعه الناحية وما معها منسوباً إليها وداخلاً فيها لاستقبال سنة كذا، منحة سائغة، لا يعترضها التكدير، ونعمة سايغة، لا ينقضها التغيير، وحباء موصول الأسباب، وعطاء بغير من ولا حساب، يتحكم فيه على قضايا الاختيار، وتنفذ فيه أوامره الميمونة الإيراد والإصدار.
ومنها- أن يفتتح السجل بلفظ: إن أمير المؤمنين ويذكر من وصفه ما سنح له، ثم يذكر حكم الإقطاع، وكيفية خروجه.
وهذه نسخة سجل من ذلك كتب لبعض وزرائهم، من إنشاء القاضي الفاضل؛ وهي: إن أمير المؤمنين لما أطلق الله يد بره من أميال تبدو على الأحوال شواهد آثارها، وتروض الآمال سحائبها بسائب مدرارها، وتتنزه مواعدها عن أنظارها، ومواردها عن الله تعالى، يؤتى بأنظارها، ويقوم بناصرها فيكون أقوى أعوانها على الشكر وأنصارها، وألهمه من مواصلة المنن التي لا ينقطع روايتها ولا تتناهى مراتبها، وموالاة المنح التي تهب على جناب الخير شمائلها وجنائبها، وتلتفي في مسارح المدائح غرائبها ورغائبها، وحببه إليه من انتهاز فرص المكارم في الأكارم، وابتداء المعروف وابتداء مغانمه التي لا تعقبها مغارم- يولي آلاءه من يجري عن حسنتها عشراً، ويعقل عقائلها عند من يسوق من استحقاقها مهراً، ويقابل بالإحسان إحساناً أجل أوليائه قدراً. ويضاعف الامتنان عند من لم يضعف في مؤازرته أزراً، ويودع ودائع جوده في المغارس الجيدة بالزكاء والنماء، ويزكي أصول معروفه لمن يفتخر بالانضواء إلى موالاته والانتماء، ويستكرم مستقر مننه وآلائه، ويحسن إلى الإحسان ثم يبتهج بموالاته لديه وإيلائه.
ولما كان السيد الأجل أمير الجيوش آية نصر أمير المؤمنين التي انبرت فما تبارى، ونعمة الله التي أشرقت أنوارها وأورت فما تتوارى، وسيف حقه الذي لا تكل مقاطعه، وبحر جوده الذي لا تكدر مشارعه والمستقل من الدفاع عن حوزته بما عجزت عنه الأمم، والعلي على مقدار الأقدار إذا تفاوتت قيم الهمم، والكاشف الجلى عن دولته وقد عظمت مظالم الظلم، والجامع على الممارة والمواراة قلب الموالف والمخالف ولسان العرب والعجم، والمتبويء من الملك ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، والمتوقل من الفخر محلاً لا يطمع النجم فيه من بعده، والمغير على الحرب العوان بقبلية البكر، والمنفذ بمبتدع العزمات ما لولا وقوعه لما وقوعه في الفكر، والقاضي للدين بحد سيوفه مطلول حقه وممطول دينه، والقائم لأمير المؤمنين مقاماً قام به أبوه في نصرة جده صلى الله عليهما يوم بدره ويوم حنينه.
ولقد أظهر الله آيات نضارة نظره على الأرض فأخذت زخرفها وازينت، وابتدت أيديه الجنى فتظاهرت أدلتها على دولته وتبينت، واستلأمت المملكة من تدبيره بجنة تتحاماها الأقدار وهي سهام، ووثقت من عنايته إلى هجر الخطوب بما يعيد نارها وهي برد وسلام، وما ضرها مع تيقظ جفنه أن يهجع في جفنه طرف الحسام، ولا احتاجت وقلبه يساور جسيم أمورها أن تتعب في وأدها الأجسام؛ فأي خير يولى- وإن عظم- يناهض استحقاقه؟ وأي غاية وإن جلت تروم نيل مدى مسعاه ولحاقه؟؛ وأنى لأعراض الدنيا أن تهدي لجوهرة عرضاً، ولا تبلغ مبالغ النعم الجلائل أن تعتد اليوم من مساعيه عوضاً؟، وهو لأمير المؤمنين أعمال في مجازاته عن قيامه بغمد رأيه ومجرد عضبه، ودفاعه عن حوزة عدته وذبه، وكره في مواقف كربه، وكفايته للأمة في سلمه وحربه، وإيالته التي خص الأرض منها فضل خصبه، إلا أن يذكره بقلبه عند ربه، وأن يرفع الحجب عند كل سؤال كما يرفع الله عند دعائه مسدل حجبه؟.
وعرضت بحضرة أمير المؤمنين مطالعة منه عن خبر باسمه الكريم مقصور على الرغبة في خروج الأمر بتمليك جهته التي تقوم عدتها عدة ألف، مستخرجاً بها الخط الشريف بإمضاء التمليك وإجازته، وتسليم الملك وحيازته.
فيلقى أمير المؤمنين هذه الرغبة بإفراز جرى فيه من الأوامر على أفضل سنن، وتقبلها منه بقبول حسن، وتهللت عليه لسؤاله مصابيح الطلاقة والبشر، ونفذت مواقع توقيعه ما لا تبلغه مواقع ماء المزن في البلد القفر، وشمله خطه الشريف بما نسخته: خرج أمره إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتمليك الجهة المقدم ذكرها بجميع حدودها وحقوقها، وظاهرها وباطنها، وأعاليها وأسافلها، وكل حق لها، داخل فيها وخارج عنها، وما هو معروف بها ومنسوب إليها، تمليكاً مخلداً، وإنعاماً مؤبداً، وحقاً مؤكداً، يجري على الأصل والفرع، ويحكم أحكام الكرم والشرع، ماضياً لا تتعقب حدوده بفسخ، جائزاً لا تتجاوز عقوده نسخ، موصلة أسبابه فلا تتطرق أسباب التغيير إليها، موروثاً حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
فليعتمد كافة ولاة الدواوين، ومن يليهم من المتصرفين، حمل الأمر على موجبه، والحذر من تعديه وتعقبه، وامتثال ما رسمه أمير المؤمنين وحده، والوقوف عند أمره الذي عدم من مال فرده، وليقر في يد الديوان حجة لمودعه بعد نسخه في الدواوين بالحضرة، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني مما يكتب في الإقطاعات في الزمن المتقدم: ما كان يكتب عن ملوك الشرق القائمين على خلفاء بني العباس:
الطريقة الأولى: أن يكتب في الابتداء هذا كلام:
وطريقتهم فيه أن يكتب في الابتداء: هذا كتاب ونحو ذلك، كما كان يكتب عن خلفاء بني العباس في ذلك، ثم يذكر عرض أمره على الخليفة، واستكشاف خبر ما تقع عليه المقاطعة من الدواوين، وموافقة قولهم بما ذكره في رقعته، ويذكر أن أمير المؤمنين وذلك السلطان أمضيا أمر تلك المقاطعة وقراره. ثم ربما وقع تسوغ ما وجب لبيت المال لصاحب المقاطعة زيادة عليها ليكون في المعنى أنه باشرها.
وهذه نسخة مقاطعة بضيعة كتب عن صمصام الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه؛ وهي: هذا كتاب من صمصام الدولة، وشمس الملة، أبي كاليجار، بن عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع، بن ركن الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين، لمحمد بن عبد الله بن شهرام.
إنك ذكرت حال ضياعك المعروفة برسدولاً والبدرية من طسوج نهر الملك، والحظائر والحصة بنهر قلا من طسوج قطربل، وما لحقها: من اختلال الحال ونقصان الارتفاع، واندثار المشارب، واستئجام المزارع، وطمع المجاورين، وضعف الأكرة والمزارعين، وظلم العمال والمتصرفين، لتطأول غيباتك عنها، وانقطاعك بالأسفار المتصلة عن استيفاء حقوقها، وإقامة عماراتها، والإنفاق على مصالحها، والانتصاف من المجاورين لها والمعاملين فيها؛ ووصفت ما تحتاج إلى تكلفه من الجملة الوافرة: لاحتفار أنهارها، وإحياء مواتها، واعتمال متعطلها، وإعادة رسومها، وإطلاق البذور فيها، وابتياع العوامل لها، واختلاف الأكرة إليها.
وسألت أن تقاطع عن حق بيت المال فيها وجميع توابعه، وسائر لزومه، على ثلاثة آلاف درهم في كل سنة، معونة لك على عمارتها، وتمكيناً من إعادتها إلى أفضل أحوالها، وتوسعة عليك في المعيشة منها.
فأنهينا ذلك إلى أمير المؤمنين الطالع لله، وأفضنا بحضرته فيما أنت عليه من الخلائق الحميدة، والطرائق الرشيدة، وما لك من الخدمات القديمة والحديثة، الوجبة لأن تلحق بنظرائك من الخدم المختصين، والحواشي المستخلصين، بإجابتك إلى ما سألت، وإسعافك بما التمست، فخرج الأمر- لا زال عالياً- بالرجوع في ذلك إلى كتاب الواوين، وعمال هذه النواحي، وتعرف ما عندهم فيه مما يعود بالصلاح، ويعو إلى الاحتياط. فرجع إليهم فيما ذكرته وحكيته، فصدقوك في جميعه، وشهدوا لك بصحته، وتردد بينك وبينهم خطاب في الارتفاع الوافر القديم، وما توجبه العبر لعدة سنين، إلى أن استقر الأمر على أن توقعت على هذه الضياع المسماة في هذا الكتاب خمسة آلاف درهم ورقاً مرسلاً بغير كسر، ولا كفاية، ولا حق خزن، ولا جهبذة ولا محاسبة، ولا غير ذلك من المؤن كلها. ثم أنهينا ذلك إلى أمير المؤمنين الطائع لله، فأمر- زاد أمره علواً- بإمضاء ذلك، على أن يكون هذا المال، وهو خمسة آلاف درهم مؤدى في الوقت الذي تفتتح فيه المقاطعات: وهو أول يوم من المحرم في كل سنة، على استقبال السنة الجارية، سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة الخراجية، عن الخراج في الغلات الشتوية والصيفية، والمحدثة والمبكرة الجارية على المساحة، والحاصل من الغلات الجارية على المقاسمة والجوالي، والمراعي، والأرحاء، وسائر أبواب المال، ووجوه الجبايات وتقسيط المصالح، والحماية، مع ما يلزم ذلك من التوابع كلها: قليلها وكثيرها، والرسوم الثابتة في الدواوين بأسرها، وعن كل ما أحدث ويحدث بعدها على زيادة الارتفاع ونقصانه، وتصرف جميع حالاته: مقاطعة مقررة مؤبدة، ممضاة مخلدة، على مرور الليالي والأيام، وتعاقب السنين والأعوام، لك ولولدك، وعقبك من بعدك، ومن عسى أن ينتقل هذه الضياع إليه بميراث. أو بيع، الله تعالى، هبة، أو تمليك، أو مناقلة، أو وقف، أو إجازة، أو مباذرة، أو مزارعة أو غير ذلك من جميع الوجوه التي تنتقل الأملاك عليها، وتجري بين الناس المعاملات فيها، لا يفسخ ذلك ولا يغير، ولا ينقض ولا يبدل، ولا يزال عن سبيله، ولا يحال عن جهته، ولا يعترض عليك ولا على أحد من الناس فيه ولا في شيء منه، ولا يتأول عليك ولا على غيرك فيه، بزيادة عمارة، ولا زكاء ريع، ولا غلو سعر، ولا إصلاح شرب، ولا اعتمال خراب، ولا إحياء موات، ولا بغير ذلك من سائر أسباب وفور الارتفاع ودرور الاستغلال.
وحظر مولانا أمير المؤمنين الطائع لله، وحظرنا بحظره على كتاب الدواوين: أصولها وأزمتها، وعمال النواحي، والمشرفين عليها، وجميع المتصرفين على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، الاعتراض عليك في هذه المقاطعة، أو إيقاع ثمن أو مساحة على ما كان منها جارياً على الخراج، أو تقرير أو حزر، أو قسمة على ما كان منها جارياً على المقاسمة، أو أن تدخلها يد مع يدك لناظر أو حاظر أو مستظهر أو معتبر أو متصفح، إذ كان ما يظهر منها من الفضل على مرور السنين مسوغاً لك، لا تطالب به، ولا بمرفق عنه، ولا على ما ظهر عليه وعلى شيء منه، ولا يلتمس منك تجديد كتاب: إذ قد صار ذلك لك وفي يدك بهذه المقاطعة، وصار ما يجب من الفضل بين ما توجبه المسائح والمقاسمات وسائر وجوه الجبايات، وبين مال هذه المقاطعة المحدودة المذكورة في هذا الكتاب خارجاً عما عليه العمال، ويرفعه منهم المؤتمنون، ويوافق عليه المتضمنون، على مرور الأيام والشهور، وتعاقب السنين والدهور؛ فلا تقبل في ذلك نصيحة ناصح، ولا توفير موفر، ولا سعاية ساع، ولا قذف قاذف، ولا طعن طاعن.
ولا يلزم عن إمضاء هذه المقاطعة مؤونة، ولا كلفة، ولا مصانعة، ولا مصالحة، ولا ضريبة، ولا تقسيط، ولا عمل بريد، ولا مصلحة من المصالح السلطانية، ولا حق حماية، ولا خفارة، ولا غير ذلك من جميع الأسباب التي يتطرق بها عليك، ولا على من بعدك، لزيادة على مالها المحصور المذكور في هذا الكتاب، ولا حق خزن ولا جهبذة، ولا محاسبة ولا مؤونة ولا زيادة. ومتى استخرج منك شيء أو من أحد من أنسبائك، أو ممن عسى أن تنتقل إليه هذه المقاطعة بشيء زائد عليها على سبيل الظلم والتأول والتعنت لم يكن ذلك فاسخاً لعقدها، ولا مزيلاً لأمرها، ولا قادحاً في صحتها، وكان لك أن تطالب برد المأخوذ زائداً على مالها، وكان على من ينظر في الأمور إنصافك في ذلك وردة عليك، وكانت المقاطعة المذكورة ممضاة على تصرف الأحوال كلها.
ثم إنا رأينا بعد ما أمضاه مولانا أمير المؤمنين، وأمضيناه لك من ذلك وتمامه وإحكامه ووجوبه وثبوته، أن سوغناك هذه الخمسة آلاف درهم المؤداة عن هذه المقاطعة على استقبال سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة الخراجية، تسويغاً مؤبداً، ماضياً على مر السنين: ليكون في ذلك بعض العوض عن بافي أملاكك وضياعك التي قبضت عنك، وبعض المعونة فيما أنت متصرف عليه من خدمتنا، ومتردد فيه من مهمات أمورنا؛ وأوجبنا لك في هذا التسويغ جميع الشروط التي تشترط في مثله، مما ثبت في هذا الكتاب ومما لم يثبت فيه: لينحسم عنك تتبع المتتبعين، وتعقب المتعقبين، وتأول المتأولين على الوجوه والأسباب. وأمرنا- متى وقع على مال هذا التسويغ- وهو خمسة آلاف درهم- ارتجاع، بحدث يحدث عليك، أو بتعويض تعوض عنه، أو بحال من الأحوال التي توجب ارتجاعه- أن يكون أصل المقاطعة ممضى لك، ورسمها باقياً عليك وعلى من تنتقل هذه الضياع إليه بعدك، على ما خرج به أمير المؤمنين في ذلك، من غير نقض ولا تأول فيه، ولا تغيير لرسم من رسومه، ولا تجاوز لحد من حدوده، على كل وجه وسبب. فليعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين الطائع لله وأمره، ومن امتثالنا وإمضائنا، وليعمل عليه جماعة من وقف على هذا الكتاب: من طبقات الكتاب، والعمال، والمشرفين، والمتصرفين في أعمال الخراج والحماية والمصالح، وغيرهم. وليحذروا من مخالفته، وليمضوا بأسرهم لمحمد بن عبد الله بن شهرام ومن بعده جميعه، وليحملوه على ما يوجبه. وليقر هذا الكتاب في يده وأيديهم بعده حجة له ولهم، ولينسخ في جميع الدواوين، إن شاء الله تعالى.
الطريقة الثانية مما يكتب في الإقطاعات في الزمن المتقدم: ما كان يكتب عن الملوك الأيوبية بالديار المصرية:
وكانوا يسمون ما يكتب فيها تواقيع؛ ولهم فيه أساليب:
الأسلوب الأول: أن يفتتح التوقيع المكتتب بالإقطاع بخطبة مفتتحة بـ الحمد لله:
وكان من عادة خطبهم أن يؤتى فيها بعد التحميد بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يؤتى ببعديه، ثم يذكر ما سنح من حال السلطان، ثم يوصف صاحب الإقطاع بما تقتضيه حاله من صفات المدح، ويرتب على ذلك استحقاقه للإقطاع. وقد كان من عادتهم أنهم يأتون بوصية على ذلك في أجره.
وهذه نسخة توقيع على هذا الأسلوب، كتب به عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله، لأخيه العادل أبي بكر بإقطاع الديار المصرية، وبلاد الجزيرة، وديار بكر، في سنة ثمانين وخمسمائة، بعد الإنفصال من حرب الكفار بعكا وعقد الهدنة معهم؛ وهي: الحمد لله الذي جعل أيامنا حساناً، وأعلى لنا يداً ولساناً، وأطاب محتدنا أوراقاً وأغصاناً، ورفع لمجدنا لواءً ولجدنا برهاناً، وحقق فينا قوله: سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً.
نحمده على سبوغ نعمته، ونسأله أن يجعلنا من الداخلين في رحمته.
ثم نصلي على رسوله محمد الذي أيده بحكمته، وعصمه من الناس بعصمته، وأخرج به كل قلب من ظلمته، وعلى آله وأصحابه الذين خلفوه فأحسنوا الخلافة في أمته.
أما بعد، فإن فروع الشجرة يأوي بعضها إلى بعض لمكان قربه، ويؤثر بعضها بعضاً من فضل سربه؛ ونحن إن كان من الحسنات التي يكثر فيها إثبات الأقلام، فإنه من مصالح الملك التي دلت عليها تجارب الأيام؛ وكلا هذين الأمرين مشكورة مذاهبه، محمودة عواقبه، مرفوعة على رؤوس الأشهاد مناقبه؛ وما من أحد من أدانينا إلا وقد وسمناه بعوارف يختال في ملابسها، ويسر في كل حين بزفاف عرائسها، ولم نرض في بل أرحامهم بمواصلة سلامها دون مواصلة برها وإدناء مجالسها؛ ولإخوتنا من ذلك أوفر الأقسام، كما أن لهم منا رحماً هو أقرب الأرحام؛ وقد أمرنا بتجديد العارفة لأخينا الملك العادل، الأجل، السيد، الكبير، سيف الدين، ناصر الإسلام أبي بكر أبقاه الله. ولو لم نفعل ذلك قضاء لحق إخائه الذي ترف عليه حواني الأضالع، لفعلناه جزاء منها على قدم الاجتهاد، وفي لحمة شوابك النسب قريب وصل حرمة نسبه بحرمة الوداد؛ وعنده من الغناء ما يحكم لآماله ببسطة الخيار، ويرفع مكانته عن مكانة الأشباه والأنظار، ويجعله شريكاً في الملك، والشريك مساو في النقض والإمرار؛ فكم من موقف وقفه في خدمتنا فجعل وعره سهلاً، وفاز فيه بإرضائنا وبفضيلة التقدم فانقلب بالمحبذين إرضاء وفضلاً؛ ويكفي من ذلك ما أبلاه في لقاء العدو الكافر الذي اشترى في هياجه، وتمادى في لجاجه، ونزل على ساحل البحر فأطل عليه بمثل أمواجه، وقال: لا براح، دون استفتاح؛ الأمر الذي عسرت معالجة رتاجه، وتلك وقائع استضأنا فيها برأيه الذي ينوب مناب الكمين في مضمره، وسيفه الذي ينسب من الاسم إلى أبيضه ومن اللون إلى أخضره؛ ولقد استغنينا عنهما بنضرة لقبه الذي تولت يد الله طبع فضله، وعنيت يد السيادة برونق صقله؛ فهو يفري قلوب الأعداء قبل الأجساد، ويسري إليهم من غير حامل لمناط النجاد، ويستقصي في استلابهم حتى ينتزع من عيونهم لذة الرقاد؛ وليس للحديد جوهر معدنه المستخرج من زكاء الحسب، وإذا استنجد قيل له: يا ذا المعالي! كما يقال لسميه: يا ذا الشطب؛ ولو أخذنا في شرح مناقبه لظل القلم واقفاً على أعواد منبره، وامتد شأو القول فيه فلم ينته مورده إلى مصدره؛ فمهما خولناه من العطايا فإنه يسير في جنب غنائه، ومهما أثنينا عليه فإنه سطر في كتاب ثنائه.
وقد جعلنا له من البلاد ما هو مقتسم من الديار المصرية والشامية، وبلاد الجزيرة وديار بكر: ليكون له من كل منهما حظ تفيض يده في أمواله، يركب في حشد من رجاله، ويصبح وهو في كل جانب من جوانب ملكنا كالطليعة في تقدم مكانها، وكالربيئة في إسهار أجفانها.
فليتسلم ذلك بيد معظم قدراً، ولا يستكثر كثراً، ويحمل منها رفدها غيثاً أو بحراً؛ وكذلك فليعدل في الرعية الذين هم عنده ودائع، وليجاوز بهم درجة العدل إلى إحسان الصنائع؛ فإذا أسند هذا الأمر إلى ولاته فليكونوا تقاة لا يجد الهوى عليهم سبيلاً، ولا يحمد الشيطان عندهم مقيلاً، وإذا حملوا ثقلاً لا يجدون حمله ثقيلاً.
وقد فشا في هذا الزمن أخذ الرشوة وهي سحت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنبذه، ونهى عن أخذه، وعن الرغبة في تداوله؛ وهو كأخذ الربا الذي قرنت اللعنة بمؤكله وآكله.
وأما القضاة الذين هم للشريعة أوتاد، ولإمضاء أحكامها أجناد، ولحفظ علومها كنوز لا يتطرق إليها النفاد، فينبغي أن يعول فيهم على الواحد دون الاثنين، وأن يستعان منهم في الفصل بذي الأيدي وفي اليقظة بذي اليدين؛ ومن رام هذا المنصب سائلاً فليلمه وليغلظ القول في تجريع ملامه، وليعرف أنه ممن رام أمراً فأخطأ الطريق في استجلاب مرامه؛ وأمر الحكام لا يتولاه من سأله، وإنما يتولاه من غفل عنه وأغفله.
وإذا قضينا حق الله في هذه الوصايا فلنعطفها على ما يكون لها تابعاً، ولقواعد الملك رافعاً؛ وذاك أن البلاد التي أضفناها إليك: فيها مدن ذات أعمال واسعة، ومعاقل ذات حصانة مانعة، وكلها يفتقر إلى استخدام الفكر في تدبيره، وتصريف الزمان في تعميره؛ فول وجهك إليها غير وان في تكثير قليلها، وترويض مخيلتها، وبث الأمنة على أوساطها، وإهداء الغبطة إلى أفئدة أهلها حتى تسمع باغتباطها، وعند ذلك يتحدث كل منهم بلسان الشكور، ويتمثل بقوله تعالى: {بلدة طيبة ورب غفور}.
واعلم أنه قد يجاورك في بعضها جيران ذو بلاد وعساكر، وأسرة ومنابر، وأوائل للمجد وأواخر؛ وما منهم إلا من يتمسك منا بود سليم، وعهد قديم، وله مساعدة نعرف له حقها والحق يعرفه الكريم.
فكن لهؤلاء جاراً يودون جواره، ويحمدون آثاره؛ وإن سألوك عهداً فابذله لهم بذل وفي واقف على السنن، مساو بين السر والعلن؛ ولا يكن وفاؤك لخوف تتفي مراصده، ولا لرجاء ترقب فوائده؛ فالله قد أغناك أن تكون إلي المعاهدة لاجياً، وجعلك بنا مخوفاً ومرجواً لا خائفاً ولا راجياً؛ وقد زدناك فضلة في محلك تكون بها على غيرك مفضلاً، وقد كنت من قبلها أغر فأوفت بك أغر محجلاً؛ وذاك أنا جعلناك على آية الخيل تقودها إلى خوض الغمار، وتصرفها في منازل الأسفار، وترتب قلوبها وأجنحتها على اختلاف مراتب الأطوار؛ فنحن لا نلقى عدواً ولا ننهد إلى بلد إلا وأنت كوكبنا الذي نهتدي بمطلعه، ومفتاحنا الذي نستفتح المغلق بيمن موقعه، ونوقن بالنصر في ذهابه وبالغنيمة في مرجعه؛ والله يشرح لك صدراً، وييسر لك منا أمراً، ويشد أزرنا بك كما شد لموسى بأخيه أزراً، والسلام.
الأسلوب الثاني: أن يفتتح التوقيع بالإقطاع بلفظ أما بعد فإن كذا:
ويذكر ما سنح له من أمر السلطان أو الإقطاع أو صاحبه، ثم يتعرض إلى أمر الإقطاع؛ وهو دون الأسلوب الذي قبله في الرتبة.
وهذه نسخة توقيع بإقطاع من هذا الأسلوب، كتب بها لأمير قدم على الدولة فاستخدمته؛ وهي: أما بعد، فإن لكل وسيلة جزاء على نسبة مكانها، وهي تتفاوت في أوقات وجوبها ومثاقيل ميزانها؛ ومن أوجبها حقاً وسيلة الهجرة التي طوى لها الأمل من شقته ما طوى، وبعث بها على صدق النية ولكل امريء ما نوى؛ فالأوطان إليها مودعة، والخطوات موسعة، والوجوه من برد الليل وحر النهار ملفعة، وقد توخاها قوم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فحظوا في الدنيا باعتلاء المنار، وفي الآخرة بعقبى الدار، وقدموا على من آوى ونصر فقال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار}؛ ثم صارت هذه سنة فيمن هاجر من أقوام إلى أقوام، واستبدل بأنام عن أنام؛ وكذلك فعلت أيها الأمير فلان- وفقك الله- وقد تلقيت هجرتك هذه بالكرامة، وزخرفت لها دار الإقامة؛ فما ابتغيت بها بغية إلا سهلت لك فجاجها، أو عاج عليك معاجها، وحمد لديك تأويبها وإدلاجها، وأصبحت وقد وجدت خفضاً غب السرى، وخيطت منك الجفون على أمن الكرى، وتبوأت كنف الدولة التي هي أم الدول إذ صرت إلى القرية التي هي أم القرى. ونحن قد أدنيناك منا إدناء الخليط والعشير، ورفعناك إلى محل الاختصاص الذي هو المحل الأثير، وآخينا بينك وبين عطايانا كما ووخي بين الصحابة النبوية يوم الغدير.
هذا ولك وسيلة أخرى تعد من حسان المناقب، وتوصف بالصفات الأطايب؛ وما يقال إلا أنها من الأطواد الرواس، وأنها تبرز في اللباس الأحمر وغيرها لا يبرز في ذلك اللباس؛ وهي التي تجعلك بوحدتها في كثرة، وتتأمر بها من غير إمرة؛ وطالما أطالت يدك بمناط البيض الحداد، وفرجت لك ضيق الكر وقد غص بهوادي الجياد، وحسنتك العيون وقد رميت منك بشرق القذا ونبوة السهاد؛ ومن شرف الإقدام أن العدو يحب العدو من أجله، ويضطره إلى أن يقر بفضله؛ ومذ وصلت إلينا وصلناك بأمرائنا الذين سلفت أيامهم، وثبتت في مقامات الغناء أقدامهم، وتوسمنا أنك الرجل الذي يزكو لديك الصنيع، وأنك ستشفعه بحقوق خدمتك التي هي نعم الشفيع.
وقد عجلنا لك من الإقطاع ما لا نرضى أن تكون عليه شاكراً، وجعلناه لك أولاً وإن كان لغيرك آخراً؛ وهو مثبت في هذا التوقيع بقلم الديوان الذي أقيم لفرض الجند كتاباً، ولمعرفة أرزاقهم حساباً؛ وهو كذا وكذا.
فتنأول هذا التخويل الذي خولته باليمين، واستمسك به استمساك الضنين.
واعلم أنه قد كثر الحواسد لما مددناه من صنعك، وبسطناه من ذرعك؛ فأشج حلوقهم بالسعي لاستحقاق المزيد، وارق في درجات الصعود وألزمهم صفحة الصعيد.
والذي نأمرك به أن تعد نفسك للخدمة التي جعلت لها قرناً وأنت بها أغنى، وأن تنتهي فيها إلى الأمد الأقصى دون الأدنى؛ فلا تضمم جناحك إلا على قوادم من الرجال لا على خواف، وإذا استنفرت فانفر بثقال من الخيل وخفاف، وكن مذخوراً لواحدة يقال فيها: يا عزائم اغضبي، ويا خيل النصر اركبي؛ وتلك هي التي تتظلم بها الجماجم من الضراب، وتلاقى فيها عصب الغربان والذئاب؛ ولا تحتاج مع هذه إلى منقبة تتجمل بتفويفها، وتتكثر بتعريفها، وتنتمي إلى تليدها باستحداث طريفها.
والله تعالى يشد بك أزراً، ويملأ بك عيناً وصدراً، ويجعل الفلج مقروناً برأيك ورايتك حتى يقال: وكروا مكراً وجردنا بيضاً وسمراً؛ والسلام إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثالث: أن يفتتح التوقيع المكتتب بالإقطاع بما فيه معنى الشجاعة والقتال وما في معنى ذلك:
وهو أدنى من الذي قبله رتبة.
وهذه نسخة توقيع بإقطاع من هذا النمط، كتب به لبعض الأمراء الصغار؛ وهي: القلم والرمح قلمان كلاهما أسمر، وكما تشابها في المنظر فكذلك تشابها في المخبر؛ غير أن هذا يركب في عسكر من القول وهذا يحمل في عسكر؛ وقد نطق أحدهما بالثناء على أخيه فأحسن في نطقه، وأقر له بالفضيلة ومن الإنصاف أن يقر لذي الحق بحقه؛ غير أن هذه الفضيلة تعزى إلى من يقيم أود الساعي بتقويم أوده، ولا يرى لها سبيلاً قصداً إلا بالوطء على قصده؛ وهو أنت أيها الأمير فلان، أيدك الله وقد اخترناك لخدمتنا على بصيرة، وأجريناك من اعتنائنا على أكرم وتيرة، ورفعنا درجتك فوق درجة المعلي لمن سبقك وإنها لكبيرة.
ولم يكن هذا الاختيار إلا بعد اختبار لا يحتاج معه إلى شهادة، ولو كشف الغطاء لم يجد اليقين من زيادة؛ فطالما عجمت نبعتك، وتيمنت طلعتك، ولم تعرض سلعة الغناء إلا نفقت سلعتك؛ ومثلك من تباهي الرجال بمكانه، وتخلي له فضلة عنانه، ويتسع ميدان القول في وصفه إذا ضاق بغيره سعة ميدانه؛ وما يقال إلا أنك الرجل الذي تقذف الجانب المهم بعزمك، وترمي برأيك قبل رماء سهمك، وبك يحسر دجى الحرب الذي أعوزه الصباح، ويحمى عقابها أن يحص له جناح؛ فأسباب الاعتضاد بك إذن كثيرة الأعداد، وأنت الواحد المشار إليه ولا تكثر إلا مناقب الآحاد.
وقد بدأناك من العطاء بما يكون ببسم الله في صدر الكتاب، وجعلناه كالغمامة التي تأتي أولاً بالقطار ثم تأخذ في الانسكاب؛ وخير العطاء ما رب بعد ميلاده، وأينع ثمره بعد جداده؛ وإن صادف ذلك وسائل خدم مستأنفة كان لها قراناً، وصادف الإحسان منه إحساناً؛ وقد ضمن الله تعالى للشاكر من عباده مزيداً، ولم يرض له بأن يكون مبدئاً حتى يكون معيداً؛ وكذلك دأبه فيمن عرف مواقع نعمه، وعلم أن صحتها لا تفارقه ما لم يعدها بسقمه.
ونحن أولى من أخذ بهذا الأدب الكريم، وألزم نفسه أن تتحلى بخلقه وإنه للخلق العظيم؛ وعطاؤنا المنعم به عليك لم يذكر في هذا التوقيع على حكم الامتنان، بل إثباتاً لحساب الجند الذين هم أعوان الدولة ولا بد من إحصاء الأعوان؛ وهو كذا وكذا.
فامدد له يداً تجمع مع الشكر مواظبة، ومع الطاعة مراقبة، وكن في التأهب للخدمة كالسهم الموضوع في وتره، وأصخ بسمعك وبصرك إلى ما تؤمر به فلا ائتمار لن لم يصخ بسمعه وبصره.
وملاك ذلك كله أن تتكثر من فرسان الغوار، وحماة الذمار، والذين هم زينة سلم ومفزع حذار؛ ومثل هؤلاء لا يضمهم جيش إلا تقدمه جيش من الرعب، ودارت منه الحرب على قطبها ولا تدور رحى إلا على قطب؛ وإذا ساروا خلف رايتك نشرت ذوائبها على غابة من الآساد وخفقت على بحر من الحديد يسير به طود من الجياد.
ومن أهم الوصايا إليك أن تضيف إلى غنائهم غنى يبرزهم في زهرة من اللباس، ويعينهم على إعداد القوة ليوم الباس، ويقصر لديهم شقة الأسفار التي تذهب بنزقات الشماس، وينقطع دون قطعها طول الأنفاس؛ وأي فائدة في عسكر يأخذ بعد المسرى في حوره، ولا يزيد صبره بزيادة سفره، ويكون حافره وخفه سواء في انتساب كل منهما إلى شدة حجره.
فانظر إلى هذه الوصية نظر من طال على صحبه بالكف الأوسع، وعلم ما يضر فيهم وما ينفع؛ والله يمنحك من لدنه توفيقاً، ويسلك بك إلى الحسنى طريقاً، ويجعلك خليقاً بما يصلحك وليس كل أحد بصلاحه خليقاً، والسلام.